هل الطبيعة تخضع لمبدأ الحتمية خضوعا تاما؟
يهدف العلماء إلى فهم الظواهر الطبيعية والوقوف على قوانينها، معتمدا في ذلك على منهج التجريب الذي يقوم على خطوات ثلاثة أساسية هي : الملاحظة،والفرضية،والتجربة،
ويعرف هذاالمنهج عندالمتخصصين بالمنهج الإستقرائي، حيث يقوم الباحث بالتجريب علىمجموعة من العينات ثم يعمم النتائج على كل الظواهر المتشابهة،
والمبدأ الذي يقوم عليه هذا التعميم هو مبدأ الحتمية ، حيث ينص على أنه إذا ماتوفرت نفس الشروط أدت إلى نفس النتائج، لكن مع تقدم الأبحاث في مجال الفيزياء في القرن 20 م شكك بعض الباحثين في مطلقية هذا المبدأ، وعليه يمكن طرح الإشكال التالي:
هل يمكن الإعتقاد بأن حوادث الطبيعة تجري حسب نظام كلي دائم؟ وهل يمكن القول بأن مبدأ الحتمية مبدأ مطلق؟
التحليل:
)عرض منطق الأطروحة : ( أنصارالحتمية
ذهب بعض العلماء إلى الإعتقاد بان مبدأ الحتمية مبدأ مطلق، يمكن تطبيقه على جميع ظواهرالكون، مما لايدع معه مجالا للصدفة والتلقائية والإحتمال، وبناءا على ذلك تكون الطبيعة بعيدة عن التناقض والإضطراب. وقدعبرعن هذا الموقف " لابلاس" حيث قال:" يجب علينا أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة، وسببا في حالته التي تأتي بعد ذلك مباشرة، ولواستطاع عقل ما أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة لأصبح المستقبل والماضي ماثلين أمام عينيه كالحاضر تماما." وقد دافع عن هذه الأطروحة أيضا العالم " كلودبرنار" حيث رأى بأن مبدأ الحتمية لايطبق في الدراسات الفيزيائية فقط وإنما حتى في الدراسات البيولوجية، قال:" إن مبدأ التقيد الطبيعي هو مبدأ عام تخضع له العلوم الطبيعية كلها لأنه ضروري لعلوم الأحياء كما هو ضروري لعلم الفيزياء والكيمياء فلولاه لما أمكن تأسيس العلم." ورأى العالم " جوبلو" بأن العالم متسق تجري حوادثه على نظام ثابث وأن هذا العالم كلي وعام لا يشذ عنه حادث أو ظاهرة.
النقد:
إن العقل البشري يحاول دائما القضاء على الصدفة والجهل الذي يشعر بهما إزاء حدوث الظواهر لذلك لايمكنه التخلي عن مبدأ الحتمية، ولكنه لا يزال عاجزا عن التنبؤ بكل ظواهر الطبيعة خصوصا ماتعلق بالعالم الأصغر (عالم الذرة)
عرض نقيض الأطروحة ( أنصار اللاحتمية )
أنكر علماء القرن العشرين مطلقية مبدأ الحتمية، ورأو بأن هذا المبدأ وإن أمكن تطبيقه على ظواهر الكون الكبرى فإنه يستحيل تطبيقه على العالم الأصغر أوعالم اللا متناهيات في الصغر، إذ تبين من خلال الحقائق العلمية الجديدة أن عالم الماكروفيزياء تفلت من قبضة الحتمية وتدخل في مجال آخر هو مجال اللاحتمية، وهكذا فإن معطيات العلم في القرن العشرين زعزعت الإعتقاد في الحتمية المطلقة مما أدى بالعالم " ديراك" إلى القول:" لاسبيل إلى الدفاع عن مبدأ الحتمية". كما ذهب " إيدنجتون" إلى القول:" إن الإيمان بوجود علاقات دقيقة صارمة في الطبيعة الذي اعتمد عليه العلم عصورا طويلة ليس إلا نتيجة للطابع السادج الفج الذي تتصف به معرفتنا للكون."ويقول " هانزبرغ" :" إن الإلكترون لا يمكن تحديد موقعه وسرعته في آن واحد فكلما سلط عليه الضوء لتحديد موقعه كلما انحرف عنه."
النقد:
ولكن رغم هذه الحقائق لايمكن إنكار مبدأ الحتمية، لأن كل ظاهرة مهما كبرت أو صغرت فهي تخضع لشروط محددة، فالظواهر لاتحدث كيفما اتفق ودون أن تسيطرعليها قوانين محددة.
التركيب:
إن مبدأ الحتمية مبدا نسبي ويبقى قاعدة اساسية للعلم، يقول " ديفرجي" : " إن أزمة الفيزياء الحديثة لم تنشأ بسبب عدم حمية الظواهر بل بسبب ما تنطوي عليه وسائلنا التجريبية من ضروب النقص.."
حل المشكلة:
وهكذا يمكن القول بأن العلم لاغنى له عن التسليم بمبدأ الحتمية فكل الظواهر مقيدة بقوانين محددة قال كلودبرنارد:" إن عدم التسليم بمبدأ الحتمية لايعدو أن يكون إنكار للعلم"